فصل: سئل: عن الرافضة الإمامية هل يجب قتالهم ويكفرون باعتقادهم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصـــل

فإذًا تبين بعض معنى المؤمن والمنافق‏.‏ فإذا قرأ الإنسان ‏[‏سورة الأحزاب‏]‏ وعرف من المنقولات فى الحديث، والتفسير، والفقه، والمغازى، كيف كانت صفة الواقعة التى نزل بها القرآن، ثم اعتبر هذه الحادثة بتلك، وجد مصداق ما ذكرنا‏.‏ وأن الناس انقسموا فى هذه الحادثة إلى الأقسام الثلاثة‏.‏ كما انقسموا فى تلك‏.‏ وتبين له كثير من المتشابهات‏.‏

/افتتح الله السورة بقوله‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 1‏]‏، وذكر فى أثنائها قوله‏:‏ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏47، 48‏]‏، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 2، 3‏]‏‏.‏ فأمره باتباع ما أوحى إليه من الكتاب والحكمة ـ التى هى سنته ـ وبأن يتوكل على الله‏.‏ فبالأولى يحقق قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ‏}‏، وبالثانية يحقق قوله‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏‏.‏ ومثل ذلك قوله‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 123‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وهذا وإن كان مأمورا به فى جميع الدين، فإن ذلك فى الجهاد أوكد؛ لأنه يحتاج إلى أن يجاهد الكفار والمنافقين، وذلك لا يتم إلا بتأييد قوى من الله؛ ولهذا كان الجهاد سنام العمل، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة‏.‏ ففيه سنام المحبة، كما فى قوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏‏.‏ وفيه سنام التوكل، وسنام الصبر، فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل؛ولهذا قال تعالى‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 41، 42‏]‏، ‏{‏قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 128‏]‏‏.‏

ولهذا كان الصبر واليقين ـ اللذان هما أصل التوكل ـ يوجبان الإمامة فى الـدين، كمـا دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 24‏]‏‏.‏

ولهذا كان الجهاد موجبًا للهداية التى هى محيطة بأبواب العلم، كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 69‏]‏‏.‏ فجعل لمن جاهد فيه هداية جميع سبله تعالى؛ ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما‏:‏ إذا اختلف الناس فى شىء فانظروا ماذا عليه أهل الثغر، فإن الحق معهم؛ لأن الله يقول‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا‏}

وفى الجهاد أيضا‏:‏حقيقة الزهد فى الحياة الدنيا، وفى الدار الدنيا‏.‏

وفيه أيضا‏:‏ حقيقة الإخلاص؛ فإن الكلام فيمن جاهد فى سبيل الله، لا فى سبيل الرياسة، ولا فى سبيل المال، ولا فى سبيل الحمية، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله، ولتكون كلمة الله هى العليا‏.‏

وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود، كما قال /تعالى‏:‏‏{‏إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏‏.‏ و‏{‏الجَنَّةَ‏}‏ اسم للدار التى حوت كل نعيم‏.‏ أعلاه النظر إلى الله، إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، مما قد نعرفه وقد لا نعرفه، كما قال الله ـ تعالى ـ فيما رواه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر‏)‏‏.‏

فقد تبين بعض أسباب افتتاح هذه السورة بهذا‏.‏

ثم إنه ـ تعالى ـ قال‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وكان مختصر القصة‏:‏ أن المسلمين تحزب عليهم عامة المشركين الذين حولهم، وجاؤوا بجموعهم إلى المدينة ليستأصلوا المؤمنين، فاجتمعت قريش وحلفاؤها من بنى أسد، وأشجع، وفزارة، وغيرهم من قبائل نجد‏.‏ واجتمعت ـ أيضا ـ اليهود، من قريظة، والنضير‏.‏ فإن بنى النضير كان النبى صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل ذلك، كما ذكره الله ـ تعالى ـ فى ‏[‏سورة الحشر‏]‏‏.‏ فجاؤوا فى الأحزاب إلى قريظة وهم معاهدون للنبى صلى الله عليه وسلم، ومجاورون له، قريبًا من /المدينة، فلم يزالوا بهم حتى نقضت قريظة العهد، ودخلوا فى الأحزاب‏.‏ فاجتمعت هذه الأحزاب العظيمة، وهم بقدر المسلمين مرات متعددة‏.‏ فرفع النبى صلى الله عليه وسلم الذرية من النساء والصبيان فى آطام المدينة، وهى مثل الجواسق، ولم ينقلهم إلى مواضع أخر‏.‏ وجعل ظهرهم إلى سلع ـ وهو الجبل القريب من المدينة من ناحية الغرب والشام ـ وجعل بينه وبين العدو خندقا‏.‏ والعدو قد أحاط بهم من العالية والسافلة‏.‏ وكان عدوا شديد العداوة، لو تمكن من المؤمنين لكانت نكايته فيهم أعظم النكايات‏.‏

وفى هذه الحادثة تحزب هذا العدو من مغل وغيرهم من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة، ونحوهم من أجناس المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم‏.‏ ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الإقدام والإحجام، مع قلة من بإزائهم من المسلمين‏.‏ ومقصودهم الاستيلاء على الدار، واصطلام أهلها‏.‏ كما نزل أولئك بنواحى المدينة بإزاء المسلمين‏.‏

ودام الحصار على المسلمين عام الخندق ـ على ما قيل‏:‏ بضعا وعشرين ليلة‏.‏ وقيل‏:‏ عشرين ليلة‏.‏

وهذا العدو عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر، وكان أول /انصرافه راجعا عن حلب لما رجع مقدمهم الكبير قازان بمن معه؛ يوم الاثنين حادى أو ثانى عشر جمادى الأولى، يوم دخل العسكر ـ عسكر المسلمين ـ إلى مصر المحروسة‏.‏ واجتمع بهم الداعى، وخاطبهم فى هذه القضية‏.‏ وكان الله ـ سبحانه وتعالى ـ لما ألقى فى قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم‏:‏ ألقى الله فى قلوب عدوهم الروع والانصراف‏.‏

وكان عام الخندق برد شديد، وريح شديدة منكرة، بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 9‏]‏‏.‏

وهكذا هذا العام أكثر الله فيه الثلج والمطر والبرد ـ على خلاف أكثر العادات ـ حتى كره أكثر الناس ذلك‏.‏ وكنا نقول لهم‏:‏ لا تكرهوا ذلك؛ فإن لله فيه حكمة ورحمة‏.‏ وكان ذلك من أعظم الأسباب التى صرف الله به العدو؛ فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم ما شاء الله‏.‏ وهلك ـ أيضًا ـ منهم من شاء الله‏.‏ وظهر فيهم وفى بقية خيلهم من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، حتى بلغنى عن بعض كبار المقدمين فى أرض الشام أنه قال‏:‏ لا بيض الله وجوهنا، أعدونا فى الثلج إلى شعره، ونحن قعود لا نأخذهم‏؟‏ وحتى علموا أنهم كانوا صيدًا للمسلمين، لو يصطادونهم، لكن فى تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة‏.‏

/وقال الله فى شأن الأحزاب‏:‏‏{‏إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏

وهكذا هذا العام‏.‏ جاء العدو من ناحيتى علو الشام ـ وهو شمال الفرات ـ وهو قبلى الفرات ـ فزاغت الأبصار زيغًا عظيمًا، وبلغت القلوب الحناجر؛ لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر، وتقرب العدو، وتوجهه إلى دمشق‏.‏ وظن الناس بالله الظنونا‏.‏ هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، حتى يصطلموا أهل الشام‏.‏ وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسرة، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر‏.‏ وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تكون تحت مملكة الإسلام‏.‏ وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر فيستولون عليها، فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن، ونحوها‏.‏ وهذا ـ إذا أحسن ظنه ـ قال‏:‏ إنهم يملكونها العام، كما ملكوها عام هولاكو، سنة سبع وخمسين‏.‏ ثم قد يخرج العسكر من مصر فيستنقذها منهم، كما خرج ذلك العام‏.‏ وهذا ظن خيارهم‏.‏ وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية، وأهل التحديث والمبشـرات أمانى كاذبة، وخرافات لاغية‏.‏ وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب، ليس له عقل /يتفهم، ولا لسان يتكلم‏.‏

وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلـت عنده الإرادات، لا سيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب‏.‏ ولا يميز فى التحديث بين المخطئ والصائب‏.‏ ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلاً بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدى لدفع ما يتخيل أنه معارض لها فى بادئ الروية‏.‏

فلذلك استولت الحيرة على من كان متسمًا بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء، ‏{‏هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 11‏]‏‏.‏ ابتلاهم الله بهذا الابتلاء، الذى يكفر به خطيآتهم، ويرفع به درجاتهم، وزلزلوا بما يحصل لهم من الرجفات، ما استوجبوا به أعلى الدرجات‏.‏ قال الله تعالى‏:‏‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وهكذا قالوا فى هذه الفتنة فيما وعدهم أهل الوراثة النبوية، والخلافة الرسالية، وحزب الله المحدثون عنه‏.‏ حتى حصل لهؤلاء التأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏21‏]‏‏.‏

فأما المنافقون فقد مضى التنبيه عليهم‏.‏

/وأما الذين فى قلوبهم مرض، فقد تكرر ذكرهم فى هذه السورة، فذكروا هنا، وفى قوله‏:‏ ‏{‏لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 60‏]‏، وفى قوله‏:‏ ‏{‏فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وذكر الله مرض القلب فى مواضع، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 49‏]‏‏.‏

والمرض فى القلب كالمرض فى الجسد، فكما أن هذا هو إحالة عن الصحة والاعتدال من غير موت، فكذلك قد يكون فى القلب مرض يحيله عن الصحة والاعتدال، من غير أن يموت القلب، سواء أفسد إحساس القلب وإدراكه، أو أفسد عمله وحركته‏.‏

وذلك ـ كما فسروه ـ هو من ضعف الإيمان، إما بضعف علم القلب واعتقاده، وإما بضعف عمله وحركته‏.‏ فيدخل فيه من ضعف تصديقه، ومن غلب عليه الجبن والفزع؛ فإن أدواء القلب من الشهوة المحرمة والحسد والجبن والبخل وغير ذلك، كلها أمراض‏.‏ وكذلك الجهل والشكوك والشبهات التى فيه‏.‏

وعلى هذا فقوله‏:‏ ‏{‏فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 32‏]‏ هو إرادة الفجور، وشهوة الزنا، كما فسروه به‏.‏ ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏/‏(‏وأى داء أدوأ من البخل‏؟‏‏!‏‏)‏‏.‏

وقد جعل الله ـ تعالى ـ كتابه شفاء لما فى الصدور، وقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما شفاء العِىِّ السؤال‏)‏‏.‏

وكان يقول فى دعائه‏:‏ ‏(‏اللهم إنى أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء‏)‏‏.‏

ولن يخاف الرجل غير الله إلا لمرض فى قلبه، كما ذكروا أن رجلاً شكا إلى أحمد بن حنبل خوفه من بعض الولاة، فقال‏:‏ لو صححت لم تخف أحدًا‏.‏ أى‏:‏ خوفك من أجل زوال الصحة من قلبك؛ ولهذا أوجب الله على عباده ألا يخافوا حزب الشيطان، بل لا يخافون غيره ـ تعالى ـ فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏ أى‏:‏ يخوفكم أولياءه‏.‏ وقال لعموم بنى إسرائيل تنبيهًا لنا‏:‏ ‏{‏وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ‏[‏البقرة‏:‏ 150‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 39‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏‏.‏

فدلت هذه الآية ـ وهى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 12‏]‏ ـ على أن المرض والنفاق فى القلب يوجب الريب فى الأنباء الصادقة التى توجب أمن الإنسان من الخوف،حتى يظنوا أنها كانت غرورًا لهم، كما وقع فى حادثتنا هذه سواء‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏، وكان النبى صلى الله عليه وسلم قد عسكر بالمسلمين عند سَلْع، وجعل الخندق بينه وبين العدو‏.‏ فقالت طائفة منهم‏:‏ لا مقام لكم هنا؛ لكثرة العدو، فارجعوا إلى المدينة‏.‏ وقيل‏:‏ لا مقام لكم على دين محمد، فارجعوا إلى دين الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ لا مقام لكم على القتال، فارجعوا إلى الاستئمان والاستجارة بهم‏.‏

وهكذا لما قدم هذا العدو كان من المنافقين من قال‏:‏ ما بقيت الدولة الإسلامية تقوم، فينبغى الدخول فى دولة التتار‏.‏ وقال بعض الخاصة‏:‏ ما بقيت أرض الشام تسكن، بل ننتقل عنها، إما إلى الحجاز واليمن، وإما إلى مصر‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل المصلحة الاستسلام لهؤلاء، كما قد /استسلم لهم أهل العراق، والدخول تحت حكمهم‏.‏

فهذه المقالات الثلاث قد قيلت فى هذه النازلة‏.‏ كما قيلت فى تلك‏.‏ وهكذا قال طائفة من المنافقين، والذين فى قلوبهم مرض، لأهل دمشق خاصة والشام عامة‏:‏ لا مقام لكم بهذه الأرض‏.‏

ونفى المقام بها أبلغ من نفى المقام‏.‏ وإن كانت قد قرئت بالضم أيضًا‏.‏ فإن من لم يقدر أن يقوم بالمكان، فكيف يقيم به‏؟‏‏!‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 13‏]‏‏.‏

وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون ـ والناس مع النبى صلى الله عليه وسلم عند سَلْع داخل الخندق، والنساء والصبيان فى آطام المدينة‏:‏ يا رسول الله، إن بيوتنا عورة، أى‏:‏ مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل ـ وأصل العورة‏:‏ الخالى الذى يحتاج إلى حفظ وستر‏.‏ يقال‏:‏ اعور مجلسك إذا ذهب ستره، أو سقط جداره‏.‏ ومنه عورة العدو‏.‏ وقال مجاهد والحسن‏:‏ أى ضائعة تخشى عليها السراق‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قالوا‏:‏ بيوتنا مما يلى العدو، فلا نأمن على أهلنا، فائذن لنا أن /نذهب إليها؛لحفظ النساء والصبيان‏.‏ قال الله تعالى‏:‏‏{‏وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ‏}‏؛ لأن الله يحفظها ‏{‏إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا‏}‏ فهم يقصدون الفرار من الجهاد، ويحتجون بحجة العائلة‏.‏

وهكذا أصاب كثيرًا من الناس فى هذه الغزاة‏.‏ صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة، كمصر، ويقولون‏:‏ ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون فى ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم فى حصن دمشق، لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقـد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 14‏]‏، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها ثم طلبت منهم الفتنة ـ وهى الافتتان عن الدين بالكفر، أو النفاق لأعطوا الفتنة، ولجاؤوها من غير توقف‏.‏

وهذه حال أقوام لو دخل عليهم هذا العدو المنافق المجرم‏.‏ ثم طلب منهم موافقته على ما هو عليه من الخروج عن شريعة الإسلام ـ وتلك فتنة عظيمة ـ لكانوا معه على ذلك‏.‏ كما ساعدهم فى العام الماضى أقوام بأنواع من الفتنـة فى الدين والدنيـا، ما بين ترك واجبات، وفعل محرمات، إما فى حق الله، وإما فى حق العباد‏.‏ كترك الصلاة، وشرب /الخمور، وسب السلف، وسب جنود المسلمين، والتجسس لهم على المسلمين، ودلالتهم على أموال المسلمين، وحريمهم‏.‏ وأخذ أموال الناس، وتعذيبهم، وتقوية دولتهم الملعونة، وإرجاف قلوب المسلمين منهم، إلى غير ذلك من أنواع الفتنة‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 15‏]‏، وهذه حال أقوام عاهدوا ثم نكثوا ـ قديمًا وحديثًا ـ فى هذه الغزوة‏.‏ فإن فى العام الماضى، وفى هذا العام ـ فى أول الأمر ـ كان من أصناف الناس من عاهد على أن يقاتل ولا يفر، ثم فر منهزمًا، لما اشتد الأمر‏.‏

ثم قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 16‏]‏، فأخبر الله أن الفرار لا ينفع لا من الموت ولا من القتل‏.‏ فالفرار من الموت كالفرار من الطاعون؛ ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه‏)‏‏.‏ والفرار من القتل كالفرار من الجهاد‏.‏ وحرف ‏[‏لن‏]‏ ينفى الفعل فى الزمن المستقبل‏.‏ والفعل نكرة‏.‏ والنكرة فى سياق النفى تعم جميع أفرادها‏.‏ فاقتضى ذلك‏:‏ أن الفرار من الموت أو القتل ليس فيه منفعة أبدًا‏.‏ وهذا خبر الله الصادق‏.‏ فمن اعتقد أن ذلك ينفعه فقد كذب الله فى خبره‏.‏

/والتجربة تدل على مثل ما دل عليه القرآن‏.‏ فإن هؤلاء الذين فروا فى هذا العام لم ينفعهم فرارهم، بل خسروا الدين والدنيا، وتفاوتوا فى المصائب‏.‏ والمرابطون الثابتون نفعهم ذلك فى الدين والدنيا، حتى الموت الذى فروا منه كثر فيهم‏.‏ وقل فى المقيمين‏.‏ فما منع الهرب من شاء الله‏.‏ والطالبون للعدو والمعاقبون له لم يمت منهم أحد، ولا قتل، بل الموت قل فى البلد من حين خرج الفارون‏.‏ وهكذا سنة الله قديمًا وحديثًا‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 16‏]‏، يقول‏:‏ لو كان الفرار ينفعكم لم ينفعكم إلا حياة قليلة، ثم تموتون‏.‏ فإن الموت لابد منه‏.‏وقد حكى عن بعض الحمقى أنه قال‏:‏ فنحن نريد ذلك القليل‏.‏ وهذا جهل منه بمعنى الآية‏.‏ فإن الله لم يقل‏:‏ إنهم يمتعون بالفرار قليلاً‏.‏ لكنه ذكر أنه لا منفعة فيه أبدًا‏.‏ ثم ذكر جوابًا ثانيًا‏:‏ أنه لو كان ينفع لم يكن فيه إلا متاع قليل‏.‏ ثم ذكر جوابًا ثالثًا‏:‏ وهو أن الفار يأتيه ما قضى له من المضرة، ويأتى الثابت ما قضى له من المسرة‏.‏ فقال‏:‏‏{‏قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 17‏]‏‏.‏

ونظيره قوله فى سياق آيات الجهاد‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏ 78‏]‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 156‏]‏‏.‏ فمضمون الأمر‏:‏ أن المنايا محتومة، فكم ممن حضر الصفوف فسلم، وكم ممن فر من المنية فصادفته، كما قال خالد بن الوليد ـ لما احتضر‏:‏ لقد حضرت كذا وكذا صفًا، وإن ببدنى بضعًا وثمانين، ما بين ضربة بسيف، وطعنة برمح، ورمية بسهم، وهاأنذا أموت على فراشى كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 18‏]‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ كان من المنافقين من يرجع من الخندق فيدخل المدينة، فإذا جاءهم أحد قالوا له‏:‏ ويحك‏!‏ اجلس فلا تخرج‏.‏ ويكتبون بذلك إلى إخوانهم الذين بالعسكر‏:‏ أن ائتونا بالمدينة، فإنا ننتظركم‏.‏ يثبطونهم عن القتال‏.‏ وكانوا لا يأتون العسكر إلا ألا يجدوا بدًا‏.‏ فيأتون العسكر ليرى الناس وجوههم‏.‏ فإذا غفل عنهم عادوا إلى المدينة‏.‏ فانصرف بعضهم من عند النبى صلى الله عليه وسلم، فوجد أخاه لأبيه وأمه وعنده شواء ونبيذ‏.‏ فقال‏:‏ أنت هاهنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف‏؟‏ فقال‏:‏ هلم إلىَّ، فقد أحيط بك وبصاحبك‏.‏

/فوصف المثبطين عن الجهاد ـ وهم صنفان ـ بأنهم إما أن يكونوا فى بلد الغزاة، أو فى غيره، فإن كانوا فيه عوقوهم عن الجهاد بالقول، أو بالعمل، أو بهما‏.‏ وإن كانوا فى غيره راسلوهم، أو كاتبوهم‏:‏ بأن يخرجوا إليهم من بلد الغزاة، ليكونوا معهم بالحصون، أو بالبعد‏.‏ كما جرى فى هذه الغزاة‏.‏

فإن أقوامًا فى العسكر والمدينة وغيرهما صاروا يعوقون من أراد الغزو، وأقوامًا بعثوا من المعاقل والحصون وغيرها إلى إخوانهم‏:‏ هلم إلينا‏.‏ قال الله ـ تعالى ـ فيهم‏:‏ ‏{‏وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 18، 19‏]‏ أى‏:‏ بخلاء عليكم بالقتال معكم، والنفقة فى سبيل الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بخلاء عليكم بالخير والظفر والغنيمة‏.‏ وهذه حال من بخل على المؤمنين بنفسه وماله، أو شح عليهم بفضل الله، من نصره ورزقه الذى يجريه بفعل غيره، فإن أقوامًا يشحون بمعروفهم، وأقوامًا يشحون بمعروف الله وفضله‏.‏ وهم الحساد‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏، من شدة الرعب الذى فى قلوبهم، يشبهون المغمى عليه وقت النزع؛ فإنه يخاف ويذهل عقله، ويشخص بصره ولا يطرف‏.‏ فكذلك هؤلاء؛ لأنهم يخافون القتل‏.‏

{‏فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏، ويقال فى اللغة‏:‏ /‏[‏صلقوكم‏]‏ وهو رفع الصوت بالكلام المؤذى‏.‏ ومنه‏:‏ ‏[‏الصالقة‏]‏ وهى التى ترفع صوتها بالمصيبة‏.‏ يقال‏:‏ صلقه، وسلقه ـ وقد قرأ طائفة من السلف بها، لكنها خارجة عن المصحف ـ إذا خاطبه خطابًا شديدًا قويًا‏.‏ ويقال‏:‏ خطيب مسلاق‏:‏ إذا كان بليغًا فى خطبته، لكن الشدة هنا فى الشر لا فى الخير‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وهذا السلق بالألسنة الحادة، يكون بوجوه‏:‏

تارة يقول المنافقون للمؤمنين‏:‏ هذا الذى جرى علينا بشؤمكم، فإنكم أنتم الذين دعوتم الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم؛ فإن هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من الصحابة‏.‏

وتارة يقولون‏:‏ أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، وإلا فلو كنا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا‏.‏

وتارة يقولون‏:‏ أنتم مع قلتكم وضعفكم تريدون أن تكسروا العدو، وقد غركم دينكم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 49‏]‏‏.‏

وتارة يقولون‏:‏ أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا /أنفسكم والناس معكم‏.‏

وتارة يقولون أنواعًا من الكلام المؤذى الشديد‏.‏ وهم مع ذلك أشحة على الخير، أى‏:‏ حراص على الغنيمة والمال الذى قد حصل لكم‏.‏ قال قتادة‏:‏ إن كان وقت قسمة الغنيمة، بسطوا ألسنتهم فيكم‏.‏ يقولون‏:‏ أعطونا، فلستم بأحق بها منا‏.‏ فأما عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحق‏.‏ وأما عند الغنيمة فأشح قوم‏.‏ وقيل‏:‏ أشحة على الخير، أى‏:‏ بخلاء به، لا ينفعون، لا بنفوسهم ولا بأموالهم‏.‏

وأصل الشح‏:‏ شدة الحرص الذى يتولد عنه البخل والظلم، من منع الحق، وأخذ الباطل‏.‏ كما قال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إياكم والشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمَرَهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا‏)‏‏.‏ فهؤلاء أشحاء على إخوانهم، أى‏:‏ بخلاء عليهم، وأشحاء على الخير، أى‏:‏ حراص عليه‏.‏ فلا ينفقونه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 8‏]‏، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 20‏]‏‏.‏

فوصفهم بثلاثة أوصاف‏:‏

/أحدها‏:‏ أنهم لفرط خوفهم يحسبون الأحزاب لم ينصرفوا عن البلد‏.‏ وهذه حال الجبان الذى فى قلبه مرض؛ فإن قلبه يبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن‏.‏

الوصف الثانى‏:‏ أن الأحزاب إذا جاؤوا تمنوا ألا يكونوا بينكم، بل يكونون فى البادية بين الأعراب، يسألون عن أنبائكم‏:‏ إيش خبر المدينة‏؟‏ وإيش جرى للناس‏؟‏

والوصف الثالث‏:‏ أن الأحزاب إذا أتوا ـ وهم فيكم ـ لم يقاتلوا إلا قليلاً‏.‏ وهذه الصفات الثلاث منطبقة على كثير من الناس فى هذه الغزوة كما يعرفونه من أنفسهم، ويعرفه منهم من خبرهم‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏، فأخبر ـ سبحانه ـ أن الذين يبتلون بالعدو، كما ابتلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهم فيه أسوة حسنة، حيث أصابهم مثل ما أصابه‏.‏ فليتأسوا به فى التوكل والصبر، ولا يظنون أن هذه نقم لصاحبها، وإهانة له‏.‏ فإنه لو كان كذلك ما ابتلى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ خير الخلائق ـ بل بها ينال الدرجات العالية، وبها يكفر الله الخطايا لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا، وإلا فقد يبتلى بذلك من ليس كذلك،/ فيكون فى حقه عذابًا كالكفار والمنافقين‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 22‏]‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ كان الله قد أنزل فى سورة البقرة‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 214‏]‏، فبين الله ـ سبحانه منكرًا على من حسب خلاف ذلك ـ أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد أن يبتلوا مثل هذه الأمم قبلهم بـ‏[‏البأساء‏]‏، وهى الحاجة والفاقة‏.‏ و‏[‏الضراء‏]‏ وهى الوجع والمرض‏.‏ و‏[‏الزلزال‏]‏ وهى زلزلة العدو‏.‏

فلما جاء الأحزاب عام الخندق فرأوهم، قالوا‏:‏ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 22‏]‏، وعلموا أن الله قد ابتلاهم بالزلزال‏.‏ وأتاهم مثل الذين خلوا من قبلهم، وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمـًا لحكم الله وأمره‏.‏ وهذه حال أقوام فى هذه الغزوة قالوا ذلك‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏ أى‏:‏ عهده الذى عاهد الله عليه، فقاتل حتى قتل، أو عاش‏.‏ و‏[‏النحب‏]‏‏:‏ النذر والعهد‏.‏ وأصله من النحيب‏.‏ وهو /الصوت‏.‏ ومنه‏:‏ الانتحاب فى البكاء، وهو الصوت الذى تكلم به فى العهد‏.‏ ثم لما كان عهدهم هو نذرهم الصدق فى اللقاء ـ ومن صدق فى اللقاء فقد يقتل ـ صار يفهم من قوله‏:‏ ‏{‏قَضَى نَحْبَهُ‏}‏ أنه استشهد، لا سيما إذا كان النحب‏:‏ نذر الصدق فى جميع المواطن؛ فإنه لا يقضيه إلا بالموت‏.‏ وقضاء النحب هو الوفاء بالعهد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 23‏]‏ أى‏:‏ أكمل الوفاء‏.‏ وذلك لمن كان عهده مطلقًا بالموت، أو القتل‏.‏ ‏{‏وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ‏}‏ قضاءه، إذا كان قد وفى البعض، فهو ينتظر تمام العهد‏.‏ وأصل القضاء‏:‏ الإتمام والإكمال‏.‏

{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 24‏]‏‏.‏ بين الله ـ سبحانه ـ أنه أتى بالأحزاب ليجزى الصادقين بصدقهم، حيث صدقوا فى إيمانهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 15‏]‏ فحصر الإيمان فى المؤمنين المجاهدين، وأخبر أنهم هم الصادقون فى قولهم‏:‏ آمنا، لا من قال، كما قالت الأعراب‏:‏ ‏{‏آمنا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏، والإيمان لم يدخل فى قلوبهم، بل انقادوا واستسلموا‏.‏ وأما المنافقون فهم بين أمرين‏:‏ إما أن يعذبهم، وإما أن يتوب عليهم‏.‏ فهذا حال الناس فى الخندق وفى هذه الغزاة‏.‏

/وأيضًا، فإن الله ـ تعالى ـ ابتلى الناس بهذه الفتنة، ليجزى الصادقين بصدقهم، وهم الثابتون الصابرون، لينصروا الله ورسوله، ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم‏.‏ ونحن نرجو من الله أن يتوب على خلق كثير من هؤلاء المذمومين؛ فإن منهم من ندم‏.‏ والله ـ سبحانه ـ يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات‏.‏ وقد فتح الله للتوبة بابا من قبل المغرب عرضه أربعون سنة، لا يغلقه حتى تطلع الشمس من مغربها‏.‏

وقد ذكر أهل المغازى ـ منهم ابن إسحاق ـ أن النبى صلى الله عليه وسلم قال فى الخندق‏:‏ ‏(‏الآن نغزوهم، ولا يغزونا‏)‏، فما غزت قريش ولا غطفان، ولا اليهود المسلمين بعدها، بل غزاهم المسلمون، ففتحوا خيبر ثم فتحوا مكة‏.‏ كذلك ـ إن شاء الله ـ هؤلاء الأحزاب من المغل وأصناف الترك ومن الفرس، والمستعربة، والنصارى، ونحوهم من أصناف الخارجين عن شريعة الإسلام، الآن نغزوهم ولا يغزونا‏.‏ ويتوب الله على من يشاء من المسلمين، الذين خالط قلوبهم مرض أو نفاق، بأن ينيبوا إلى ربهم، ويحسن ظنهم بالإسلام، وتقوى عزيمتهم على جهاد عدوهم‏.‏ فقد أراهم الله من الآيات ما فيه عبرة لأولى الأبصار، كما قال‏:‏ ‏{‏وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 25‏]‏‏.‏

/ فإن الله صرف الأحزاب عـام الخندق بمـا أرسل عليهـم مـن ريـح الصبـا ـ ريح شديدة باردة ـ وبما فرق به بين قلوبهم، حتى شتت شملهم، ولم ينالوا خيرًا‏.‏ إذ كان همهم فتح المدينة والاستيلاء عليها وعلى الرسول والصحابة، كما كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين، فردهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثلج العظيم، والبرد الشديد، والريح العاصف، والجوع المزعج، ما الله به عليم‏.‏

وقد كان بعض الناس يكره تلك الثلوج والأمطار العظيمة التى وقعت فى هذا العام، حتى طلبوا الاستصحاء غير مرة‏.‏ وكنا نقول لهم‏:‏ هذا فيه خيرة عظيمة‏.‏ وفيه لله حكمة وسر، فلا تكرهوه‏.‏ فكان من حكمته‏:‏ أنه فيما قيل‏:‏ أصاب قازان وجنوده، حتى أهلكهم، وهو كان فيما قيل‏:‏ سبب رحيلهم‏.‏ وابتلى به المسلمون ليتبين من يصبر على أمر الله وحكمه ممن يفر عن طاعته وجهاد عدوه‏.‏ وكان مبدأ رحيل قازان فيمن معه من أرض الشام وأراضى حلب‏:‏ يوم الاثنين حادى عشر جمادى الأولى، يوم دخلت مصر عقيب العسكر، واجتمعت بالسلطان وأمراء المسلمين، وألقى الله فى قلوبهم من الاهتمام بالجهاد ما ألقاه‏.‏ فلما ثبت الله قلوب المسلمين صرف العدو، جزاء منه، وبيانًا أن النية الخالصة والهمة الصادقة ينصر الله بها، وإن لم يقع الفعل، وإن تباعدت الديار‏.‏

/وذكر أن الله فرق بين قلوب هؤلاء المغل والكرج وألقى بينهم تباغضًا وتعاديًا، كما ألقى ـ سبحانه ـ عام الأحزاب بين قريش وغطفان، وبين اليهود‏.‏ كما ذكر ذلك أهل المغازى‏.‏ فإنه لم يتسع هذا المكان لأن نصف فيه قصة الخندق، بل من طالعها علم صحة ذلك، كما ذكره أهل المغازى، مثل عروة بن الزبير، والزهرى، وموسى بن عقبة، وسعيد بن يحيى الأموى، ومحمد بن عائذ، ومحمد بن إسحاق، والواقدى، وغيرهم‏.‏

ثم تبقى بالشام منهم بقايا، سار إليهم من عسكر دمشق أكثرهم، مضافـاً إلى عسكر حماة وحلب، وما هنالك‏.‏ وثبت المسلمون بإزائهم‏.‏ وكانوا أكثر من المسلمين بكثير، لكن فى ضعف شديد وتقربوا إلى حماة، وأذلهم الله ـ تعالى ـ فلم يقدموا على المسلمين قط‏.‏ وصار من المسلمين من يريد الإقدام عليهم، فلم يوافقه غيره، فجرت مناوشات صغار، كما جرى فى غزوة الخندق، حيث قتل على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ فيها عمرو بن عبد ود العامرى لما اقتحم الخندق، هو ونفر قليل من المشركين‏.‏

كذلك صار يتقرب بعض العدو فيكسرهم المسلمون، مع كون العدو المتقرب أضعاف من قد سرى إليه من المسلمين‏.‏ وما من مرة إلا وقد كان المسلمون مستظهرين عليهم‏.‏ وساق المسلمون خلفهم فى آخر /النوبات،فلم يدركوهم إلا عند عبور الفرات‏.‏وبعضهم فى جزيرة فيها، فرأوا أوائل المسلمين فهربوا منهم، وخالطوهم، وأصاب المسلمون بعضهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه غرق بعضهم‏.‏

وكان عبورهم وخلو الشام منهم فى أوائل رجب، بعد أن جرى ـ ما بين عبور قازان أولاً وهذا العبورـ رجفات ووقعات صغار، وعزمنا على الذهاب إلى حماة غير مرة؛ لأجل الغزاة، لما بلغنا أن المسلمين يريدون غزو الذين بقوا‏.‏ وثبت بإزائهم المقدم الذى بحماة، ومن معهم من العسكر، ومن أتاه من دمشق، وعزموا على لقائهم، ونالوا أجرًا عظيمًا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنهم كانوا عدة كمانات، إما ثلاثة، أو أربعة‏.‏ فكان من المقدر أنه إذا عزم الأمر وصدق المؤمنون الله يلقى فى قلوب عدوهم الرعب فيهربون، لكن أصابوا من البليدات بالشمال مثل ‏[‏تيزين‏]‏

و‏[‏الفوعة‏]‏ و‏[‏معرة مصرين‏]‏ وغيرها ما لم يكونوا وطئوه فى العام الماضى‏.‏

وقيل‏:‏ إن كثيرًا من تلك البلاد كان فيهم ميل إليهم ـ بسبب الرفض ـ وأن عند بعضهم فرامين منهم، لكن هؤلاء ظلمة، ومن أعان ظالمًا بلى به، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 129‏]‏‏.‏

وقد ظاهروهم على المسلمين الذين كفروا من أهل الكتاب،من /أهل ‏[‏سيس‏]‏ والأفرنج‏.‏ فنحن نرجو من الله أن ينزلهم من صياصيهم وهى الحصون ـ ويقال للقرون‏:‏ الصياصى ـ ويقذف فى قلوبهم الرعب‏.‏ وقد فتح الله تلك البلاد‏.‏ ونغزوهم إن شاء الله ـ تعالى ـ فنفتح أرض العراق وغيرها، وتعلو كلمة الله ويظهر دينه؛ فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس‏.‏ وخرجت عن سنن العادة‏.‏ وظهر لكل ذى عقل من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه الأمة، وحفظه للأرض التى بارك فيها للعالمين ـ بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم، وكر العدو كرة فلم يلو عن‏.‏‏.‏ وخذل الناصرون فلم يلووا على‏.‏‏.‏‏.‏ وتحير السائرون فلم يدروا من‏.‏‏.‏‏.‏ ولا إلى‏.‏‏.‏‏.‏ وانقطعت الأسباب الظاهرة‏.‏ وأهطعت الأحزاب القاهرة، وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق‏.‏

فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الإيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة، وأساسًا /لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفى صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم‏.‏ والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا‏.‏

قال الشيخ ـ رحمه الله‏:‏ كتبت أول هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده، لما رجعت من مصر فى جمادى الآخرة، وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد‏.‏ ثم لما بقيت تلك الطائفة اشتغلنا بالاهتمام بجهادهم، وقصد الذهاب إلى إخواننا بحماة، وتحريض الأمراء على ذلك، حتى جاءنا الخبر بانصراف المتبقين منهم‏.‏ فكتبته فى رجب، والله أعلم‏.‏ والحمد لله وحده، وصلى الله على أشرف الخلق محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام تقى الدين عمن يزعمون أنهم يؤمنون بالله ـ عز وجل ـ وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويعتقدون أن الإمام الحق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو على ابن أبى طالب، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على إمامته، وأن الصحابة ظلموه ومنعوه حقه، وأنهم كفروا بذلك، فهل يجب قتالهم‏؟‏ ويكفرون بهذا الاعتقاد أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد لله رب العالمين، أجمع علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة، فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله‏.‏

فلو قالوا‏:‏ نصلى ولا نزكى، أو نصلى الخمس ولا نصلى الجمعة ولا الجماعة، أو نقوم بمبانى الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا الميسر، أو نتبع القرآن ولا نتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نعمل بالأحاديث الثابتة عنه، أو نعتقد أن اليهود والنصارى خير من جمهور المسلمين، وأن أهل القبلة قد كفروا بالله ورسوله ولم يبق منهم مؤمن إلا طائفة قليلة،/ أو قالوا‏:‏ إنا لا نجاهد الكفار مع المسلمين، أو غير ذلك من الأمور المخالفة لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، وما عليه جماعة المسلمين، فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعها، كما جاهد المسلمون مانعى الزكاة، وجاهدوا الخوارج وأصنافهم، وجاهدوا الخرمية والقرامطة والباطنية وغيرهم من أصناف أهل الأهواء والبدع الخارجين عن شريعة الإسلام‏.‏

وذلك لأن الله ـ تعالى ـ يقول فى كتابه‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏‏.‏ فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب قتالهم حتى يكون الدين كله لله، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 5‏]‏، فلم يأمر بتخلية سبيلهم إلا بعد التوبة من جميع أنواع الكفر، وبعد إقام الصلاة وإيتاء الزكاة‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 278، 279‏]‏، فقـد أخبر ـ تعالى ـ أن الطائفة الممتنعة إذا لم تنته عن الربا فقد حاربت الله ورسوله، والربا آخر ما حرم الله فى القـرآن، فما حـرمـه قبله أوكد‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 33‏]‏‏.‏

/فكل من امتنع من أهل الشوكة عن الدخول فى طاعة الله ورسوله فقد حارب الله ورسوله، ومن عمل فى الأرض بغير كتاب الله وسنة رسوله فقد سعى فى الأرض فسادًا؛ ولهذا تأول السلف هذه الآية على الكفار وعلى أهل القبلة، حتى أدخل عامة الأئمة فيها قطاع الطريق الذين يشهرون السلاح لمجرد أخذ الأموال، وجعلوهم بأخذ أموال الناس بالقتال محاربين لله ورسوله ساعين فى الأرض فسادًا‏.‏ وإن كانوا يعتقدون تحريم ما فعلوه، ويقرون بالإيمان بالله ورسوله‏.‏

فالذى يعتقد حل دماء المسلمين، وأموالهم، ويستحل قتالهم، أولى بأن يكون محاربًا لله ورسوله، ساعيًا فى الأرض فسادًا من هؤلاء‏.‏ كما أن الكافر الحربى الذى يستحل دماء المسلمين وأموالهم، ويرى جواز قتالهم، أولى بالمحاربة من الفاسق الذى يعتقد تحريم ذلك‏.‏ وكذلك المبتدع الذى خرج عن بعض شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، واستحل دماء المسلمين المتمسكين بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، وأموالهم، هو أولى بالمحاربة من الفاسق وإن اتخذ ذلك دينًا يتقرب به إلى الله‏.‏ كما أن اليهود والنصارى تتخذ محاربة المسلمين دينًا تتقرب به إلى الله‏.‏

ولهذا اتفق أئمة الإسلام على أن هذه البدع المغلظة شر من الذنوب التى يعتقد أصحابها أنها ذنوب‏.‏ وبذلك مضت سنة رسـول الله / صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمر بقتـال الخـوارج عن السنة، وأمر بالصبر على جور الأئمة وظلمهم، والصلاة خلفهم مع ذنوبهـم، وشهد لبعض المصرين من أصحابه على بعض الذنوب أنه يحب الله ورسوله، ونهى عن لعنته، وأخبر عن ذى الخويصرة وأصحابه ـ مع عبادتهم وورعهم ـ أنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية‏.‏ وقد قال تعالى فى كتابه‏:‏ ‏{‏فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏‏.‏

فكل من خرج عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشريعته، فقد أقسم الله بنفسه المقدسة أنه لا يؤمن حتى يرضي بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جميع ما يشجر بينهم من أمور الدين والدنيا، وحتى لا يبقى فى قلوبهم حرج من حكمه‏.‏ ودلائل القرآن على هذا الأصل كثيرة‏.‏

وبذلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسنة خلفائه الراشدين‏.‏ ففى الصحيحين عن أبى هريرة قال‏:‏ لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد من العـرب، قال عمر بن الخطاب لأبى بكر‏:‏ كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم /وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله‏)‏‏؟‏ فقال أبو بكر‏:‏ ألم يقل‏:‏ ‏(‏إلا بحقها‏)‏‏؟‏‏!‏ فإن الزكاة من حقها‏.‏ والله لو منعونى عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها‏.‏ فقال عمر‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله قد شرح صدر أبى بكر للقتال فعلمت أنه الحق‏.‏ فاتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتال أقوام يصلون ويصومون إذا امتنعوا عن بعض ما أوجبه الله عليهم من زكاة أموالهم‏.‏

وهـذا الاستنباط مـن صِدِّيق الأمة قد جاء مصرحًا به‏.‏ ففى الصحيحين عن عبد الله ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها‏)‏، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتالهم حتى يؤدوا هذه الواجبات‏.‏

وهـذا مطابق لكتاب الله‏.‏ وقـد تواتر عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة، وأخرج منها أصحاب الصحيح عشرة أوجه، ذكرها مسلم فى صحيحه، وأخرج منها البخارى غير وجه‏.‏ وقال الإمام أحمد ـ رحمه الله‏:‏ صح الحديث فى الخوارج من عشرة أوجه‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه /مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لو يعلم الذين يقاتلونهم ماذا لهم على لسان محمد لنكلوا عن العمل‏)‏، وفى رواية‏:‏ ‏(‏لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏)‏، وفى رواية‏:‏ ‏(‏شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه‏)‏‏.‏

وهؤلاء أول من قاتلهم أمير المؤمنين على بن أبى طالب ومن معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاتلهم بحرورى لما خرجوا عن السنة والجماعة، واستحلوا دماء المسلمين وأموالهم؛ فإنهم قتلوا عبد الله بن خباب، وأغاروا على ماشية المسلمين‏.‏ فقام أمير المؤمنين على بن أبى طالب وخطب الناس، وذكر الحديث، وذكر أنهم قتلوا وأخذوا الأموال، فاستحل قتالهم، وفرح بقتلهم فرحًا عظيمًا، ولم يفعل فى خلافته أمرًا عامًا كان أعظم عنده من قتال الخوارج‏.‏ وهم كانوا يكفرون جمهور المسلمين، حتى كفروا عثمان وعليا‏.‏ وكانوا يعملون بالقرآن فى زعمهم، ولا يتبعون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التى يظنون أنها تخالف القرآن‏.‏ كما يفعله سائر أهل البدع مع كثرة عبادتهم وورعهم‏.‏

وقد ثبت عن على فى صحيح البخارى وغيره، من نحو ثمانين وجهًا، أنه قال‏:‏ خير هذه الأمة بعد نبيها‏:‏ أبو بكر ثم عمر‏.‏ وثبت عنه /أنه حرق غالية الرافضة الذين اعتقدوا فيه الإلهية‏.‏ وروى عنه بأسانيد جيدة أنه قال‏:‏ لا أوتى بأحد يفضلنى على أبى بكر وعمر إلا جلدته حد المفترى‏.‏ وعنه أنه طَلَب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه‏.‏

وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أمر برجل فَضله على أبى بكر أن يجلد لذلك‏.‏ وقال عمر ـ رضي الله عنه ـ لصبيغ بن عَسْل؛ لما ظن أنه من الخوارج‏:‏ لو وجدتك محلوقًا لضربت الذى فيه عيناك‏.‏

فهذه سنة أمير المؤمنين على وغيره، قد أمر بعقوبة الشيعة؛ الأصناف الثلاثة، وأخفهم المفَضِّلة‏.‏ فأمر هو وعمر بجلدهم‏.‏ والغالية يقتلون باتفاق المسلمين، وهم الذين يعتقدون الإلهية والنبوة فى على وغيره، مثل النصيرية والإسماعيلية الذين يقال لهم‏:‏ بيت صاد، وبيت سين، ومن دخل فيهم من المعطلة الذين ينكرون وجود الصانع، أو ينكرون القيامة، أو ينكرون ظواهر الشريعة، مثل الصلوات الخمس، وصيام شهر رمضان، وحج البيت الحرام، ويتأولون ذلك على معرفة أسرارهم، وكتمان أسرارهم، وزيارة شيوخهم‏.‏ ويرون أن الخمر حلال لهم، ونكاح ذوات المحارم حلال لهم‏.‏

فإن جميع هؤلاء الكفار أكفر من اليهود والنصارى، فإن لم يظهر /عن أحدهم ذلك كان من المنافقين الذين هم فى الدرك الأسفل من النار، ومن أظهر ذلك كان أشد من الكافرين كفرًا‏.‏ فلا يجوز أن يقر بين المسلمين لا بجزية ولا ذمة، ولا يحل نكاح نسائهم، ولا تؤكل ذبائحهم؛ لأنهم مرتدون من شر المرتدين‏.‏ فإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم كما يقاتل المرتدون، كما قاتل الصديق والصحابة أصحاب مسيلمة الكذاب، وإذا كانوا فى قرى المسلمين فرقوا وأسكنوا بين المسلمين بعد التوبة، وألزموا بشرائع الإسلام التى تجب على المسلمين‏.‏

وليس هذا مختصًا بغالية الرافضة، بل من غلا فى أحد من المشايخ، وقال‏:‏ إنه يرزقه، أو يسقط عنه الصلاة أو أن شيخه أفضل من النبى، أو أنه مستغن عن شريعة النبى صلى الله عليه وسلم، وأن له إلى الله طريقًا غير شريعة النبى صلى الله عليه وسلم، أو أن أحدًا من المشايخ يكون مع النبى صلى الله عليه وسلم كما كان الخضر مع موسى‏.‏

وكل هؤلاء كفار يجب قتالهم بإجماع المسلمين، وقتل الواحد المقدور عليه منهم‏.‏

وأما الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة،فقد روى عنهما ـ أعنى‏:‏ عمر وعلى ـ قتلهما أيضًا‏.‏ والفقهاء وإن تنازعوا فى قتل الواحد /المقدور عليه من هؤلاء، فلم يتنازعوا فى وجوب قتالهم إذا كانوا ممتنعين؛ فإن القتال أوسع من القتل، كما يقاتل الصائلون العداة والمعتدون البغاة، وإن كان أحدهم إذا قدر عليه لم يعاقب إلا بما أمر الله ورسوله به‏.‏

وهذه النصوص المتواترة عن النبى صلى الله عليه وسلم فى الخوارج، قد أدخل فيها العلماء لفظًا أو معنى من كان فى معناهم من أهل الأهواء الخارجين عن شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين، بل بعض هؤلاء شر من الخوارج الحرورية، مثل الخرمية، والقرامطة، والنصيرية، وكل من اعتقد فى بشر أنه إله، أو فى غير الأنبياء أنه نبى، وقاتل على ذلك المسلمين فهو شر من الخوارج الحرورية‏.‏

والنبى صلى الله عليه وسلم إنما ذكر الخوارج الحرورية؛ لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده، بل أولهم خرج فى حياته‏.‏ فذكرهم لقربهم من زمانه، كما خص الله ورسوله أشياء بالذكر لوقوعها فى ذلك الزمان، مثل قوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 31‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 54‏]‏، ونحو ذلك‏.‏ ومثل تعيين النبى صلى الله عليه وسلم قبائل من الأنصار، وتخصيصه أسلم وغفار وجهينة وتميم وأسد وغطفان وغيرهم بأحكام؛ لمعان قامت به، وكل من وجدت فيه تلك المعانى ألحق بهم؛ لأن /التخصيص بالذكر لم يكن لاختصاصهم بالحكم، بل لحاجة المخاطبين إذ ذاك إلى تعيينهم؛ هذا إذا لم تكن ألفاظه شاملة لهم‏.‏

وهؤلاء الرافضة إن لم يكونوا شرًا من الخوارج المنصوصين فليسوا دونهم؛ فإن أولئك إنما كفروا عثمان وعليًا، وأتباع عثمان وعلى فقط، دون من قعد عن القتال أو مات قبل ذلك‏.‏

والرافضة كَفَّرتْ أبا بكر وعمر وعثمان وعامة المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكَفَّروا جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المتقدمين والمتأخرين‏.‏

فيُكفِّرون كلَّ من اعتقد فى أبى بكر وعمر والمهاجرين والأنصار العدالة، أو تَرضي عنهم كما رضي الله عنهم، أو يستغفر لهم كما أمر الله بالاستغفار لهم؛ ولهذا يكفرون أعلام الملة، مثل سعيد بن المسيب، وأبى مسلم الخولانى، وأويس القرنى، وعطاء بن أبى رباح، وإبراهيم النَّخَعِى، ومثل مالك والأوزاعى، وأبى حنيفة، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة، والثورى، والشافعى، وأحمد بن حنبل، وفضيل بن عياض، وأبى سليمان الدارانى، ومعروف الكرخى، والجنيد بن محمد، وسهل بن عبد الله التسترى، وغير هؤلاء‏.‏ ويستحلون دماء من خرج عنهم، ويسمون مذهبهم مذهب الجمهور، كما يسميه المتفلسفة ونحوهم بذلك،/ وكما تسميه المعتزلة مذهب الحشو، والعامة وأهل الحديث‏.‏ ويرون فى أهل الشام ومصر والحجاز والمغرب واليمن والعراق والجزيرة وسائر بلاد الإسلام أنه لا يحل نكاح هؤلاء ولا ذبائحهم، وأن المائعات التى عندهم من المياه والأدهان وغيرها نجسة، ويرون أن كفرهم أغلظ من كفر اليهود والنصارى؛ لأن أولئك عندهم كفار أصليون، وهؤلاء مرتدون، وكفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلى‏.‏

ولهذا السبب يعاونون الكفار على الجمهور من المسلمين، فيعاونون التتار على الجمهور‏.‏ وهم كانوا من أعظم الأسباب فى خروج جنكزخان ـ ملك الكفار ـ إلى بلاد الإسلام، وفى قدوم هولاكو إلى بلاد العراق، وفى أخذ حلب، ونهب الصالحية، وغير ذلك، بخبثهم ومكرهم؛ لما دخل فيه من توزر منهم للمسلمين وغير من توزر منهم‏.‏

وبهذا السبب نهبوا عسكر المسلمين لما مر عليهم وقت انصرافه إلى مصر فى النوبة الأولى‏.‏ وبهذا السبب يقطعون الطرقات على المسلمين‏.‏ وبهذا السبب ظهر فيهم من معاونة التتار والإفرنج على المسلمين، والكآبة الشديدة بانتصار الإسلام ما ظهر، وكذلك لما فتح المسلمون الساحل ـ عكة وغيرها ـ ظهر فيهم من الانتصار للنصارى وتقديمهم على المسلمين ما قد سمعه الناس منهم‏.‏ وكل هذا الذى وصفت بعض أمورهم، وإلا فالأمر أعظم من ذلك‏.‏

/وقد اتفق أهل العلم بالأحوال‏:‏ أن أعظم السيوف التى سلت على أهل القبلة ممن ينتسب إليها، وأعظم الفساد الذى جرى على المسلمين ممن ينتسب إلى أهل القبلة، إنما هو من الطوائف المنتسبة إليهم‏.‏

فهم أشد ضررًا على الدين وأهله، وأبعد عن شرائع الإسلام من الخوارج الحرورية؛ ولهذا كانوا أكذب فرق الأمة‏.‏ فليس فى الطوائف المنتسبة إلى القبلة أكثر كذبًا ولا أكثر تصديقًا للكذب وتكذيبًا للصدق منهم، وسيما النفاق فيهم أظهر منه فى سائر الناس، وهى التى قال فيها النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان‏)‏، وفى رواية‏:‏ ‏(‏أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر‏)‏‏.‏ وكل من جربهم يعرف اشتمالهم على هذه الخصال؛ ولهذا يستعملون التقية التى هى سيما المنافقين واليهود، ويستعملونها مع المسلمين ‏{‏يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 11‏]‏، ويحلفون ما قالوا وقد قالوا، ويحلفون بالله ليرضوا المؤمنين والله ورسوله أحق أن يرضوه‏.‏

وقد أشبهوا اليهود فى أمور كثيرة، لاسيما السامرة من اليهود؛ فإنهم أشبه بهم من سائر الأصناف، يشبهونهم فى دعوى الإمامة فى /شخص أو بطن بعينه، والتكذيب لكل من جاء بحق غيره يدعونه، وفى اتباع الأهواء أو تحريف الكلم عن مواضعه، وتأخير الفطر، وصلاة المغرب، وغير ذلك، وتحريم ذبائح غيرهم‏.‏

ويشبهون النصارى فى الغلو فى البشر والعبادات المبتدعة، وفى الشرك، وغير ذلك‏.‏

وهم يوالون اليهود والنصارى والمشركين على المسلمين، وهذه شيم المنافقين، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 51‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 80، 81‏]‏‏.‏ وليس لهم عقل ولا نقل، ولا دين صحيح، ولا دنيا منصورة، وهم لا يصلون جمعة ولا جماعة ـ والخوارج كانوا يصلون جمعة وجماعة ـ وهم لا يرون جهاد الكفار مع أئمة المسلمين، ولا الصلاة خلفهم، ولا طاعتهم فى طاعة الله، ولا تنفيذ شىء من أحكامهم؛ لاعتقادهم أن ذلك لا يسوغ إلا خلف إمام معصوم‏.‏ ويرون أن المعصوم قد دخل فى السرداب من أكثر من أربعمائة وأربعين سنة، وهو إلى الآن لم يخرج، ولا رآه أحد، ولا علَّم أحدًا دينًا، ولا /حصل به فائدة، بل مضرة‏.‏ ومع هذا فالإيمان عندهم لا يصح إلا به، ولا يكون مؤمنًا إلا من آمن به، ولا يدخل الجنة إلا أتباعه، مثل هؤلاء الجهال الضلال من سكان الجبال والبوادى، أو من استحوذ عليهم بالباطل، مثل ابن العود ونحوه، ممن قد كتب خطه مما ذكرناه من المخازى عنهم، وصرح بما ذكرناه عنهم، وبأكثر منه‏.‏

وهم مع هذا الأمر يكفرون كل من آمن بأسماء الله وصفاته التى فى الكتاب والسنة، وكل من آمن بقدر الله وقضائه،فآمن بقدرته الكاملة،ومشيئته الشاملة،وأنه خالق كل شىء‏.‏

وأكثر محققيهم ـ عندهم ـ يرون أن أبا بكر وعمر، وأكثر المهاجرين والأنصار، وأزواج النبى صلى الله عليه وسلم مثل عائشة وحفصة، وسائر أئمة المسلمين وعامتهم، ما آمنوا بالله طرفة عين قط؛ لأن الإيمان الذى يتعقبه الكفر عندهم يكون باطلاً من أصله، كما يقوله بعض علماء السنة‏.‏ ومنهم من يرى أن فرج النبى صلى الله عليه وسلم الذى جامع به عائشة وحفصة لابد أن تمسه النار ليطهر بذلك من وطء الكوافر على زعمهم؛ لأن وطء الكوافر حرام عندهم‏.‏

ومع هذا يردون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة المتواترة عنه عند أهل العلم مثل أحاديث البخارى ومسلم، ويرون أن /شعر شعراء الرافضة، مثل الحميرى، وكوشيار الديلمى، وعمارة اليمنى خيرًا من أحاديث البخارى ومسلم‏.‏ وقد رأينا فى كتبهم من الكذب والافتراء على النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته وقرابته أكثر مما رأينا من الكذب فى كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل‏.‏

وهم مع هذا يعطلون المساجد التى أمر الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، فلا يقيمون فيها جمعة ولا جماعة، ويبنون على القبور المكذوبة وغير المكذوبة مساجد يتخذونها مشاهد‏.‏ وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من اتخذ المساجد على القبور، ونهى أمته عن ذلك‏.‏ وقال قبل أن يموت بخمس‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإنى أنهاكم عن ذلك‏)‏‏.‏ ويرون أن حج هذه المشاهد المكذوبة وغير المكذوبة من أعظم العبادات، حتى إن من مشائخهم من يفضلها على حج البيت الذى أمر الله به ورسوله‏.‏ ووصف حالهم يطول‏.‏

فبهذا يتبين أنهم شر من عامة أهل الأهواء، وأحق بالقتال من الخوارج‏.‏ وهذا هو السبب فيما شاع فى العرف العام‏:‏ أن أهل البدع هم الرافضة‏.‏ فالعامة شاع عندها أن ضد السنى هو الرافضى فقط؛ لأنهم أظهر معاندة لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرائع دينه من سائر أهل الأهواء‏.‏

/وأيضا، فالخوارج كانوا يتبعون القرآن بمقتضى فهمهم، وهؤلاء إنما يتبعون الإمام المعصوم عندهم الذى لا وجود له‏.‏ فمستند الخوارج خير من مستندهم‏.‏

وأيضا، فالخوارج لم يكن منهم زنديق ولا غال، وهؤلاء فيهم من الزنادقة والغالية من لا يحصيه إلا الله‏.‏ وقد ذكر أهل العلم أن مبدأ الرفض إنما كان من الزنديق عبد الله بن سبأ؛ فإنه أظهر الإسلام وأبطن اليهودية، وطلب أن يفسد الإسلام، كما فعل بولص النصرانى، الذى كان يهوديا فى إفساد دين النصارى‏.‏

وأيضا، فغالب أئمتهم زنادقة، إنما يظهرون الرفض؛ لأنه طريق إلى هدم الإسلام، كما فعلته أئمة الملاحدة الذين خرجوا بأرض أذربيجان فى زمن المعتصم مع بابك الخرمى، وكانوا يسمون ‏[‏الخرمية‏]‏ و‏[‏المحمرة‏]‏‏.‏ و‏[‏القرامطة الباطنية‏]‏ الذين خرجوا بأرض العراق وغيرها بعد ذلك، وأخذوا الحجر الأسود، وبقى معهم مدة، كأبى سعيد الجنابى وأتباعه‏.‏ والذين خرجوا بأرض المغرب ثم جاوزوا إلى مصر، وبنوا القاهرة، وادعوا أنهم فاطميون، مع اتفاق أهل العلم بالأنساب أنهم بريؤون من نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نسبهم متصل

بالمجوس واليهود، واتفاق أهل العلم بدين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد عن دينه من اليهود والنصارى، بل الغالية الذين يعتقدون /إلهية على والأئمة‏.‏ ومن أتباع هؤلاء الملاحدة أهل دور الدعوة، الذين كانوا بخراسان والشام واليمن وغير ذلك‏.‏

وهؤلاء من أعظم من أعان التتار على المسلمين باليد واللسان، بالمؤازرة والولاية وغير ذلك، لمباينة قولهم لقول المسلمين واليهود والنصارى؛ ولهذا كان ملك الكفار ‏[‏هولاكو‏]‏ يقرر أصنامهم‏.‏

وأيضا، فالخوارج كانوا من أصدق الناس وأوفاهم بالعهد، وهؤلاء من أكذب الناس وأنقضهم للعهد‏.‏

 وأما ذكر المستفتى أنهم يؤمنون بكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ فهذا عين الكذب، بل كفروا مما جاء به بما لا يحصيه إلا الله؛ فتارة يكذبون بالنصوص الثابتة عنه، وتارة يكذبون بمعانى التنزيل‏.‏ وما ذكرناه وما لم نذكره من مخازيهم يعلم كل أحد أنه مخالف لما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏

فإن الله قد ذكر فى كتابـه من الثناء على الصحابـة والرضـوان عليهـم والاسـتغفار لهم ما هم كافرون بحقيقته‏.‏ وذكر فى كتابه من الأمر بالجمعة والأمر بالجهاد وبطاعة أولى الأمر ما هم خارجون عنه‏.‏ وذكر فى كتابه من موالاة المؤمنين وموادتهم ومؤاخاتهم والإصلاح بينهم ما هم عنه خارجون‏.‏ وذكر فى كتابه من النهى عن موالاة الكفار وموادتهم ما هم خارجون /عنه‏.‏ وذكر فى كتابه من تحريم دماء المسلمين، وأموالهم، وأعراضهم، وتحريم الغيبة والهمز، واللمز، ما هم أعظم الناس استحلالا له‏.‏ وذكر فى كتابه من الأمر بالجماعة والائتلاف والنهى عن الفرقة والاختلاف ما هم أبعد الناس عنه‏.‏ وذكر فى كتابه من طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته واتباع حكمه ما هم خارجون عنه‏.‏ وذكر فى كتابه من حقوق أزواجه ما هم برآء منه‏.‏ وذكر فى كتابه من توحيده وإخلاص الملك له وعبادته وحده لا شريك له ما هم خارجون عنه‏.‏ فإنهم مشركون كما جاء فيهم الحديث؛ لأنهم أشد الناس تعظيما للمقابر التى اتخذت أوثانا من دون الله‏.‏ وهذا باب يطول وصفه‏.‏

وقد ذكر فى كتابه من أسمائه وصفاته ما هم كافرون به‏.‏ وذكر فى كتابه من قصص الأنبياء والنهى عن الاستغفار للمشركين ما هم كافرون به‏.‏ وذكر فى كتابه من أنه على كل شىء قدير، وأنه خالق كل شىء، وأنه ما شاء الله لا قوة إلا بالله ما هم كافرون به‏.‏ ولا تحتمل الفتوى إلا الإشارة المختصرة‏.‏

ومعلوم قطعا أن إيمان الخوارج بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من إيمانهم‏.‏ فإذا كان أمير المؤمنين على بن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ قد قتلهم ونهب عسكره ما فى عسكرهم من الكراع والسلاح والأموال، فهؤلاء أولى أن يقاتلوا وتؤخذ أموالهم، كما أخذ أمير المؤمنين على بن /أبى طالب أموال الخوارج‏.‏

ومن اعتقد من المنتسبين إلى العلم أو غيره أن قتال هؤلاء بمنزلة قتال البغاة الخارجين على الإمام بتأويل سائغ، كقتال أمير المؤمنين على بن أبى طالب لأهل الجمل وصفين، فهو غالط جاهل بحقيقة شريعة الإسلام، وتخصيصه هؤلاء الخارجين عنها‏.‏

فإن هؤلاء لو ساسوا البلاد التى يغلبون عليها بشريعة الإسلام كانوا ملوكا كسائر الملوك، وإنما هم خارجون عن نفس شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته شرا من خروج الخوارج الحرورية، وليس لهم تأويل سائغ؛ فإن التأويل السائغ هو الجائز الذى يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب، كتأويل العلماء المتنازعين فى موارد الاجتهاد‏.‏ وهؤلاء ليس لهم ذلك بالكتاب والسنة والإجماع، ولكن لهم تأويل من جنس تأويل مانعى الزكاة، والخوارج، واليهود، والنصارى‏.‏ وتأويلهم شر تأويلات أهل الأهواء‏.‏

ولكن هؤلاء المتفقهة لم يجدوا تحقيق هذه المسائل فى مختصراتهم‏.‏

وكثير من الأئمة المصنفين فى الشريعة لم يذكروا فى مصنفاتهم قتال الخارجين عن أصول الشريعة الاعتقادية والعملية، كمانعى الزكاة والخوارج ونحوهم، إلا من جنس قتال الخارجين على الإمام، كأهل /الجمل وصفين‏.‏ وهذا غلط، بل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فرق بين الصنفين، كما ذكر ذلك أكثر أئمة الفقه، والسنة، والحديث، والتصوف، والكلام وغيرهم‏.‏

وأيضا، فقد جاءت النصوص عن النبى صلى الله عليه وسلم بما يشملهم وغيرهم، مثل ما رواه مسلم فى صحيحه، عن أبى هريرة، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة، ثم مات، مات ميتة جاهلية، ومن قتل تحت راية عمية، يغضب للعصبية، ويقاتل للعصبية، فليس منى، ومن خرج على أمتى يضرب برها وفاجرها ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يبقى لذى عهدها فليس منى‏)‏، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم البغاة الخارجين عن طاعة السلطان، وعن جماعة المسلمين، وذكر أن أحدهم إذا مات، مات ميتة جاهلية، فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يجعلون عليهم أئمة، بل كل طائفة تغالب الأخرى‏.‏ ثم ذكر قتال أهـل العصبية، كالذين يقاتلون على الأنساب مثل قيس ويمن، وذكر أن من قتل تحت هذه الرايات فليس من أمته، ثم ذكر قتال العداة الصائلين والخوارج ونحوهم، وذكر أن من فعل هذا فليس منه‏.‏

وهؤلاء جمعوا هذه الثلاثة الأوصاف وزادوا عليها‏.‏ فإنهم خارجون عن الطاعة والجماعة، يقتلون المؤمن والمعاهد، لا يرون لأحد من ولاة /المسلمين طاعة سواء كان عدلا أو فاسقا، إلا لمن لا وجود له‏.‏ وهم يقاتلون لعصبية شر من عصبية ذوى الأنساب، وهى العصبية للدين الفاسد، فإن فى قلوبهم من الغل والغيظ على كبار المسلمين وصغارهم وصالحيهم وغير صالحيهم ما ليس فى قلب أحد‏.‏ وأعظم عبادتهم عندهم لعن المسلمين من أولياء الله، مستقدمهم، ومستأخرهم‏.‏ وأمثلهم عندهم الذى لا يلعن ولا يستغفر‏.‏

وأما خروجهم يقتلون المؤمن والمعاهد، فهذا ـ أيضا ـ حالهم، مع دعواهم أنهم هم المؤمنون وسائر الأمة كفار‏.‏ وروى مسلم فى صحيحه عن محمد بن شريح قال‏:‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنه ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهى جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان‏)‏، وفى لفظ‏:‏ ‏(‏فاقتلوه‏)‏، وفى لفظ‏:‏ ‏(‏من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم ويفرق جماعتكم فاقتلوه‏)‏‏.‏

وهؤلاء أشد الناس حرصا على تفريق جماعة المسلمين؛ فإنهم لا يقرون لولى أمر بطاعة، سواء كان عدلا أو فاسقا، ولا يطيعونه لا فى طاعة ولا فى غيرها، بل أعظم أصولهم عندهم التكفير واللعن والسب لخيار ولاة الأمور، كالخلفاء الراشدين، والعلماء المسلمين، ومشائخهم، لاعتقادهم أن كل من لم يؤمن بالإمام المعصوم الذى لا وجود له فما آمن /بالله ورسوله‏.‏

وإنما كان هؤلاء شرا من الخوارج الحرورية وغيرهم من أهل الأهواء، لاشتمال مذاهبهم على شر مما اشتملت عليه مذاهب الخوارج؛ وذلك لأن الخوارج الحرورية كانوا أول أهل الأهواء خروجاً عن السنة والجماعة، مع وجود بقية الخلفاء الراشدين، وبقايا المهاجرين والأنصار، وظهور العلم والإيمان، والعدل فى الأمة، وإشراق نور النبوة وسلطان الحجة، وسلطان القدرة، حيث أظهر الله دينه على الدين كله بالحجة والقدرة‏.‏

وكان سبب خروجهم ما فعله أمير المؤمنين عثمان وعلى ومن معهما من الأنواع التى فيها تأويل فلم يحتملوا ذلك، وجعلوا موارد الاجتهاد، بل الحسنات ذنوبا، وجعلوا الذنوب كفرا؛ ولهذا لم يخرجوا فى زمن أبى بكر وعمر؛لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم‏.‏

ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف؛ فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية، والمستأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها‏.‏ كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبى صلى الله عليه وسلم كانت أفضل‏.‏ فالسنن ضد البدع، فكل ما قرب منه صلى الله عليه وسلم مثل سيرة أبى بكر وعمر، كان أفضل مما / تأخر كسيرة عثمان وعلى، والبدع بالضد، كل ما بعد عنه كان شرا مما قرب منه، وأقربها من زمنه الخوارج‏.‏ فإن التكلم ببدعتهم ظهر فى زمانه، ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قـوة إلا فى خـلافة أمير المؤمنين على ـ رضي الله عنه‏.‏

ثم ظهر فى زمن على التكلم بالرفض، لكن لم يجتمعوا ويصير لهم قوة إلا بعد مقتل الحسين ـ رضي الله عنه بل لم يظهر اسم الرفض إلا حين خروج زيد بن على بن الحسين بعد المائة الأولى لما أظهر الترحم على أبى بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ رفضته الرافضة فسموا ‏[‏رافضة‏]‏، واعتقدوا أن أبا جعفر هو الإمام المعصوم‏.‏ واتبعه آخرون فسموا ‏[‏زيدية‏]‏ نسبة إليه‏.‏

ثم فى أواخر عصر الصحابة نبغ التكلم ببدعة القدرية والمرجئة، فردها بقايا الصحابة، كابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وأبى سعيد، وواثلة بن الأسقع، وغيرهم، ولم يصر لهم سلطان واجتماع حتى كثرت المعتزلة والمرجئة بعد ذلك‏.‏

ثم فى أواخر عصر التابعين ظهر التكلم ببدعة الجهمية ـ نفاة الصفات ـ ولم يكن لهم اجتماع وسلطان إلا بعد المائة الثانية فى إمارة أبى العباس الملقب بالمأمون؛ فإنه أظهر التجهم، وامتحن الناس عليه، وعرب كتب /الأعاجم، من الروم، واليونانيين، وغيرهم‏.‏ وفى زمنه ظهرت ‏[‏الخرمية‏]‏ وهم زنادقة منافقون يظهرون الإسلام، وتفرعوا بعد ذلك إلى القرامطة، والباطنية، والإسماعيلية‏.‏ وأكثر هؤلاء ينتحلون الرفض فى الظاهر‏.‏ وصارت الرافضة الإمامية فى زمن بنى بويه بعد المائة الثالثة فيهم عامة هذه الأهواء المضلة، فيهم الخروج، والرفض، والقدر، والتجهم‏.‏

وإذا تأمل العالم ما ناقضوه ـ من نصوص الكتاب والسنة ـ لم يجد أحدا يحصيه إلا الله‏.‏ فهذا كله يبين أن فيهم ما فى الخوارج الحرورية وزيادات‏.‏

وأيضا، فإن الخوارج الحرورية كانوا ينتحلون اتباع القرآن بآرائهم، ويدعون اتباع السنن التى يزعمون أنها تخالف القرآن‏.‏ والرافضة تنتحل اتباع أهل البيت، وتزعم أن فيهم المعصوم الذى لا يخفى عليه شىء من العلم، ولا يخطئ، لا عمدا، ولا سهوا، ولا رشدا‏.‏ واتباع القرآن واجب على الأمة، بل هو أصل الإيمان وهدى الله الذى بعث به رسوله، وكذلك أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، تجب محبتهم، وموالاتهم، ورعاية حقهم‏.‏ وهذان الثقلان اللذان وصى بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فروى مسلم فى صحيحه، عن زيد بن أرقم قال‏:‏خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بغَدِير يدعى خُمًّا بين مكة والمدينة، فقال ‏:‏‏(‏يا أيها الناس، إنى تارك فيكم الثقلين ـ وفى رواية‏:‏أحدهما أعظم من الآخر ـ كتاب الله فيه الهدى /والنور‏)‏ فرغب فى كتاب الله، وفى رواية‏:‏ ‏(‏هو حبل الله، من اتبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على الضلالة، وعترتى أهل بيتى‏.‏ أذكركم الله فى أهل بيتى، أذكركم الله فى أهل بيتى، أذكركم الله فى أهل بيتى‏)‏‏.‏ فقيل لزيد بن أرقم‏:‏ مَنْ أهلُ بيته‏؟‏ قال‏:‏ أهل بيته من حرم الصدقة، آل العباس، وآل على، وآل جعفر، وآل عقيل‏.‏

والنصوص الدالة على اتباع القرآن أعظم من أن تذكر هنا‏.‏ وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم من وجوه حسان أنه قال عن أهل بيته‏:‏ ‏(‏والذى نفسى بيده، لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلى‏)‏، وقد أمرنا الله بالصلاة على آل محمد، وطهرهم من الصدقة التى هى أوساخ الناس، وجعل لهم حقا فى الخمس والفىء، وقال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت فى الصحيح‏:‏ ‏(‏إن الله اصطفى بنى إسماعيل، واصطفى كنانة من بنى إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى بنى هاشم من قريش، واصطفانى من بنى هاشم، فأنا خيركم نفسا وخيركم نسبا‏)‏‏.‏ ولو ذكرنا ما روى فى حقوق القرابة وحقوق الصحابة لطال الخطاب، فإن دلائل هذا كثيرة من الكتاب والسنة‏.‏

ولهذا اتفق أهل السنة والجماعة على رعاية حقوق الصحابة والقرابة، وتبرؤوا من الناصبة الذين يكفرون على بن أبى طالب ويفسقونه، /ويتنقصون بحرمة أهل البيت، مثل من كان يعاديهم على الملك، أو يعرض عن حقوقهم الواجبة، أو يغلو فى تعظيم يزيد بن معاوية بغير الحق‏.‏ وتبرؤوا من الرافضة الذين يطعنون على الصحابة وجمهور المؤمنين، ويكفرون عامة صالحى أهل القبلة‏.‏ وهم يعلمون أن هؤلاء أعظم ذنبا وضلالا من أولئك، كما ذكرنا من أن هؤلاء الرافضة المحاربين شر من الخوارج، وكل من الطائفتين انتحلت إحدى الثقلين، لكن القرآن أعظم‏.‏

فلهذا كانت الخوارج أقل ضلالا من الروافض، مع أن كل واحدة من الطائفتين مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله، ومخالفة لصحابته وقرابته، ومخالفون لسنة خلفائه الراشدين ولعترته أهل بيته‏.‏

وقـد تنازع العلماء مـن أصحاب الإمـام أحمد وغيرهم فى إجماع الخلفاء، وفى إجماع العترة هـل هو حجـة يجب اتباعها‏؟‏ والصحيح أن كـليهما حجـة؛ فإن النبى صلى الله عليه وسلم قـال‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، تمسكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ‏)‏‏.‏ وهذا حديث صحيح فى السنن‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنى تارك فيكم الثقلين‏:‏ كتاب الله، وعترتى، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض‏)‏‏.‏ رواه الترمذى وحسنه، وفيه نظر‏.‏ وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية فى زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة‏.‏

/والمقصود هنا أن يتبين أن هؤلاء الطوائف المحاربين لجماعة المسلمين من الرافضة ونحوهم هم شر من الخوارج الذين نص النبى صلى الله عليه وسلم على قتالهم ورغب فيه‏.‏ وهذا متفق عليه بين علماء الإسلام العارفين بحقيقته‏.‏ ثم منهم من يرى أن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم شمل الجميع، ومنهم من يرى أنهم دخلوا من باب التنبيه والفحوى أو من باب كونهم فى معناهم‏.‏ فإن الحديث روى بألفاظ متنوعة، ففى الصحيحين ـ واللفظ للبخارى ـ عن على ابن أبى طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال‏:‏إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا، فوالله لأن أخر من السماء أحب إلىَّ من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بينى وبينكم، فإن الحرب خدعة، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏سيخرج قوم فى آخر الزمان حداث الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من خير قول البرية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن فى قتلهم أجرا لمن قتلهم يوم القيامة‏)‏‏.‏ وفى صحيح مسلم‏:‏ عن زيد بن وهب أنه كان فى الجيش الذين كانوا مع على ـ رضي الله عنه ـ الذين ساروا إلى الخوارج‏.‏ فقال على‏:‏ يا أيها الناس، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يخرج قوم من أمتى يقرؤون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشىء، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشىء، ولا صيامكم إلى صيامهم بشىء، يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهـو عليهم، /لا تجـاوز صلاتهم تراقيهم، يمرقون مـن الإسـلام كما يمـرق السهم من الرمية، لو يعلم الجيش الذين يصيبونهم ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن العمـل، وآية ذلك أن فيهم رجلا له عضد ليس له ذراع، على رأس عضده مثل حلمة الثـدى عليه شـعرات بيض‏)‏‏.‏ والله إنى لأرجـو أن يكـونوا هـؤلاء القوم؛ فإنهم قد سفكوا الدم الحـرام، وأغاروا فى سرح الناس، فسيروا على اسم الله‏.‏ وذكر الحديث إلى آخره‏.‏

وفى مسلم ـ أيضا ـ عن عبد الله بن رافع ـ كاتب على ـ رضي الله عنه ـ أن الحرورية لما خرجت وهو مع على قالوا‏:‏ لا حكم إلا لله‏.‏ فقال على‏:‏ كلمة حق أريد بها باطل‏.‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف ناسا إنى لأعرف صفتهم فى هؤلاء، يقولون الحق بألسنتهم، لا يجاوز هذا منهم ـ وأشار إلى حلقه ـ من أبغض خلق الله إليه،منهم رجل أسود إحدى يديه طِبْى شاة أو حلمة ثدى‏.‏ فلما قتلهم على بن طالب قال‏:‏ انظروا‏.‏ فنظروا فلم يجدوا شيئاً‏.‏ فقال‏:‏ ارجعوا، فوالله ما كذبت ولا كُذِبت ـ مرتين أو ثلاثا ـ ثم وجدوه فى خربة فأتوا به حتى وضعوه بين يديه‏.‏

وهذه العلامة التى ذكرها النبى صلى الله عليه وسلم هى علامة أول من يخرج منهم، ليسوا مخصوصين بأولئك القوم، فإنه قد أخبر /فى غير هذا الحديث أنهم لا يزالون يخرجون إلى زمن الدجال‏.‏ وقد اتفق المسلمون على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر‏.‏

وأيضا، فالصفات التى وصفها تعم غير ذلك العسكر؛ ولهذا كان الصحابة يروون الحديث مطلقا، مثل ما فى الصحيحين، عن أبى سلمة، وعطاء بن يسار‏:‏ أنهما أتيا أبا سعيد فسألاه عن الحرورية‏:‏ هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها‏؟‏ قال‏:‏ لا أدرى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يخرج فى هذه الأمة ـ ولم يقل‏:‏ منها ـ قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، أو حلوقهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فينظر الرامى إلى سهمه، إلى نصله، إلى رصافه، فيتمارى فى الفوقة هل علق بها شىء من الدم‏)‏‏.‏ اللفظ لمسلم‏.‏ وفى الصحيحين ـ أىضا ـ عن أبى سعيد، قال‏:‏ بينما النبى صلى الله عليه وسلم يقسم جاء عبد الله ذو الخويصرة التميمى ـ وفى رواية‏:‏ أتاه ذو الخويصرة رجل من بنى تميم ـ فقال‏:‏ اعدل يا رسول الله‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ويلك‏!‏ من يعدل إذا لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل‏؟‏‏)‏‏.‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ ائذن لى فأضرب عنقه‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏دعه، فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شىء، ثم ينظر إلى نضيه ـ وهو قدحه ـ فلا يوجد فيه شىء، /ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شىء، قد سبق الفرث والدم‏)‏‏.‏ وذكر ما فى الحديث‏.‏

فهؤلاء أصل ضلالهم‏:‏ اعتقادهم فى أئمة الهدى وجماعة المسلمين أنهم خارجون عن العدل، وأنهم ضالون، وهذا مأخـذ الخارجين عن السنة من الرافضة ونحوهم‏.‏ ثم يعدون ما يرون أنه ظلم عندهم كفراً‏.‏ ثم يرتبون على الكفر أحكاما ابتدعوها‏.‏

فهذه ثلاث مقامات للمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم، فى كل مقام تركوا بعض أصول دين الإسلام، حتى مرقوا منه كما مرق السهم من الرمية، وفى الصحيحين فى حديث أبى سعيد‏:‏ ‏(‏يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان؛ لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏)‏، وهذا نعت سائر الخارجين كالرافضة ونحوهم؛ فإنهم يستحلون دماء أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون من دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين؛ لأن المرتد شر من غيره‏.‏ وفى حديث أبى سعيد‏:‏ أن النبى صلى الله عليه وسلم ذكر قوما يكونون فى أمته‏:‏ ‏(‏يخرجون فى فرقة من الناس، سيماهم التحليق‏)‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏هم شر الخلق ـ أو من شر الخلق ـ تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق‏)‏‏.‏ وهذه السيما سيما أولهم كما كان ذو الثدية؛ لأن هذا وصف لازم لهم‏.‏

/وأخرجا فى الصحيحين حديثهم من حديث سهل بن حنيف بهذا المعنى، ورواه البخارى من حديث عبد الله بن عمر، ورواه مسلم من حديث أبى ذر، ورافع بن عمرو، وجابر بن عبد الله، وغيرهم، وروى النسائى عن أبى بَرْزَة أنه قيل له‏:‏ هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الخوارج‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذنى، ورأيته بعينى، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بمال فقسمه، فأعطى من عن يمينه، ومن عن شماله، ولم يعط من وراءه شيئاً‏.‏ فقام رجل من ورائه، فقال‏:‏ يا محمد، ما عدلت فى القسمة ـ رجل أسود مطموم الشعر، عليه ثوبان أبيضان ـ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، وقال له‏:‏ ‏(‏والله لا تجدون بعدى رجلا هو أعدل منى‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏يخرج فى آخر الزمان قوم كأن هذا منهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، سيماهم التحليق، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم مع الدجال، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، هم شر الخلق والخليقة ‏)‏‏.‏ وفى صحيح مسلم، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن بعدى من أمتى ـ أو سيكون بعدى من أمتى ـ قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه، هم شر الخلق والخليقة‏)‏‏.‏ قال ابن الصامت‏:‏ فلقيت /رافع بن عمرو الغفارى أخا الحكم بن عمرو الغفارى، قلت‏:‏ ما حديث سمعته من أبى ذر كذا وكذا‏؟‏ فذكرت له الحديث، فقال‏:‏ وأنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فهذه المعانى موجودة فى أولئك القوم الذين قتلهم على ـ رضي الله عنه ـ وفى غيرهم‏.‏ وإنما قولنا‏:‏ إن عليا قاتل الخوارج بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل ما يقال‏:‏ إن النبى صلى الله عليه وسلم قاتل الكفار، أى‏:‏ قاتل جنس الكفار، وإن كان الكفر أنواعا مختلفة، وكذلك الشرك أنواع مختلفة، وإن لم تكن الآلهة التى كانت العرب تعبدها هى التى تعبدها الهند والصين والترك، لكن يجمعهم لفظ الشرك ومعناه‏.‏

وكذلك الخروج والمروق يتناول كل من كان فى معنى أولئك، ويجب قتالهم بأمر النبى صلى الله عليه وسلم، كما وجب قتال أولئك‏.‏ وإن كان الخروج عن الدين والإسلام أنواعا مختلفة، وقد بينا أن خروج الرافضة ومروقهم أعظم بكثير‏.‏

فأمـا قتـل الواحد المقدور عليه من الخوارج، كالحرورية، والرافضة، ونحوهم فهـذا فيه قـولان للفقهاء، هما روايتان عـن الإمام أحمد‏.‏ والصحيح أنه يجوز قتل الواحد منهم، كالداعية إلى مذهبه، ونحو ذلك ممن فيه /فساد‏.‏ فإن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أينما لقيتموهم فاقتلوهم‏)‏، وقال‏:‏ ‏(‏لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد‏)‏‏.‏ وقال عمر لصَبِيع بن عَسْل‏:‏ لو وجدتك محلوقا لضربت الذى فيه عيناك‏.‏ ولأن على بن أبى طالب طلب أن يقتل عبد الله ابن سبأ أول الرافضة حتى هرب منه‏.‏ ولأن هؤلاء من أعظم المفسدين فى الأرض‏.‏ فإذا لم يندفع فسادهم إلا بالقتل قتلـوا، ولا يجب قتل كل واحـد منهم إذا لم يظهـر هذا القول، أو كان فى قتله مفسدة راجحة‏.‏ ولهذا ترك النبى صلى الله عليه وسلم قتل ذلك الخارجى ابتداء لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، ولم يكن إذ ذاك فيه فساد عام؛ ولهذا ترك على قتلهم أول ما ظهروا لأنهم كانوا خلقاً كثيراً، وكانوا داخلين فى الطاعة والجماعة ظاهرا لم يحاربوا أهل الجماعة، ولم يكن يتبين له أنهم هم‏.‏

وأما تكفيرهم وتخليدهم، ففيه ـ أيضاً ـ للعلماء قولان مشهوران، وهما روايتان عن أحمد‏.‏ والقولان فى الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم‏.‏ والصحيح أن هذه الأقوال التى يقولونها التى يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التى هى من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هى كفر أيضا‏.‏ وقد ذكرت دلائل ذلك فى غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده فى النار، موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه‏.‏فإنا نطلق /القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذى لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة فى ‏(‏قاعدة التكفير‏)‏‏.‏

ولهذا لم يحكم النبى صلى الله عليه وسلم بكفر الذى قال‏:‏ إذا أنا مت فأحرقونى، ثم ذرونى فى اليم، فوالله لأن قدر الله علىَّ ليعذبنـى عذابا لا يعذبه أحـداً من العالمين، مع شكه فى قدرة الله وإعادته؛ ولهذا لا يكفر العلماء من استحل شيئاً من المحرمات لقـرب عهده بالإسـلام أو لنشأته ببادية بعيدة؛ فإن حكم الكفر لا يكون إلا بعد بلوغ الرسالة‏.‏ وكثير من هؤلاء قد لا يكون قد بلغته النصوص المخالفة لما يراه، ولا يعلم أن الرسول بعث بذلك، فيطلق أن هذا القول كفر، ويكفر من قامت عليه الحجة التى يكفر تاركها، دون غيره‏.‏ والله أعلم‏.‏